أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - صلاح يوسف - كرم الرمّان















المزيد.....

كرم الرمّان


صلاح يوسف

الحوار المتمدن-العدد: 2965 - 2010 / 4 / 4 - 19:00
المحور: سيرة ذاتية
    


لا يكون الإنسان نفسه إلا في الحمّام أو على سرير الموت – كولن ويلسون
-----------------------------------

لعل الشيء الوحيد الذي لن أغفره لأبي ما حييت هو حرماني من الزواج بفتاة قروية أحببتها بشكل جنوني. كنت في نهاية المرحلة الثانوية، وكان أبي يصحبني إلى الكروم التي ورثها عن جدي وأصبحت أنا وإخوتي وأخواتي ملاكها المستقبليون بعد عمر طويل للحاج يوسف.
أبو السعد كان مسؤولاً عن إعطاء مقاولات رش المبيدات وحراثة الأرض وتسميدها في نهاية يناير تمهيداً لاستقبال فصل النمو والدفء والفرح. هناك ( على طرف كرم الرمّان ) كان أبو السعد يستقبل أبي بحفاوة، بضمنها عمل الشاي على نار الحطب. ابنته الوحيدة هند كانت تحضر أغراض صنع الشاي من المنزل. تضعها برفق وتذهب بسرعة. في أول مرة شاهدتها شعرت كأن بركاناً قد عصف بأنحاء جسمي. عيونها ساحرة ترخي شعرها الأسود كالشلال. سمراء البشرة بأنف رقيق وملامح ملائكية. غمرتني ذات مرة بنظرة ساحرة لن أنساها ما حييت. بالطبع أصبحت أهتم بزيارة أبو السعد يوم الخميس موهماً أبي أنني أحب صحبته وأهتم بمتابعة عمله.
ذات يوم اشتد المرض على أبي واضطر لأن يكلفني بزيارة أبو السعد لمتابعة بعض الأمور. هناك أحضرت هند أغراض الشاي ثم أحضرت بعض الحطب، وهنا جمعت كل ما أملك من قوة لأخاطب أبو السعد موجهاً الكلام لهند: ( في أي صف من مراحل الدراسة أنت يا هند ؟ وهل أنت متفوقة ؟! ). وددت لو أسمع صوتها. أجابت بصوت أنثوي ساحر: ( كلا لست جيدة في المدرسة. أنا راسبة في الرياضيات واللغة الإنجليزية ).
في موسم امتحانات الثانوية العامة توقفت عن الذهاب إلى أبي السعد مع أبي طوال شهر أو يزيد، لكن صورتها لم تبرح خيالي، ثم بدأت أعاني الألم والعذاب لطول فراقها. كنت أعيش عذابين أو ثلاثة في نفس الوقت. عذاب هند وعذاب الأرق الناجم عن قلق الامتحان الرهيب المقبل، وثمة قلق دفين آخر يساورني حول مدى استجابة أبي لزواجي منها عندما أعرض عليه الأمر.
تقدمت للامتحان بصعوبة بالغة وحصلت على معدل جيد جدا، وقبلت في جامعة بغداد في كلية العلوم في تخصص الرياضيات التي أعشقها بينما كانت رغبة أبي هي الهندسة الزراعية. بعد انتهاء فترة الامتحانات كنت متحرقاً لرؤية هند مجدداً، فذهبت ذات خميس إلى القرية برفقة أبي، وهناك كانت تنظرني هدية السماء.
كان يوماً ينذر بقيظ شديد منذ الصباح. حتى الطيور كانت تهرب من الشمس الحارقة وتبحث عن ظل تحت أوراق غصن هنا أو هناك. أحضرت هند أغراض الشاي والحطب وكانت تعلو محياها ابتسامة عريضة ولم أجد صعوبة في أن أميز تورد خديها خجلاً على نحو غير عادي. دار حديث بين أبي وأبو السعد ما اضطرهما إلى الذهاب لمعاينة الأرض بعيداً عن باب بيت أبو السعد، فأصبحت وحدي مع هند للمرة الأولى في حياتي.
بيت أبو السعد كان يقع في بداية كرم رمان. نهضت فوراً وناديت هند فأتت معي دون أن تنطق حرفاً. التفننا خلف المنزل فأصبحنا وحدنا في كرم الرمان. بادرتها بالحديث وقلبي يدب ويزداد خفقانه وكأني أصعد الجبل راكضاً:
- كيف حالك يا هند ؟
- سلمت يا صلاح. لماذا لم تأت منذ مدة ؟!
- امتحانات نهائية بها تحديد المستقبل. غصباً عني.
- أتعلم أني في غيابك لم أحضر الحطب بل كنت أصنع الشاي في المنزل ؟!
أمسكت يديها. شعرت بأن تياراً كهربائياً صاعقاً قد سرى في بدني. لكن مع ذلك شعرت بدوار وتخدير ومتعة لن أنساها ما حييت. لم أدري إلا وشفتاي قد التهمت شفتاها. احمر وجهها خجلاً وحباً ولذة بينما امتلأ وجهي بحبيبات العرق وكأني قدمت للتو من عمل شاق.
------------------------------------------
عدنا إلى المكان المألوف أمام البيت وأخذت أنا أشعل النار تمهيداً لصنع الشاي. عاد أبي وأبو السعد من جولتهما دون أن يلاحظا شيئاً. شربنا الشاي وانطلقنا. في طريق العودة دار الحديث التالي بيني وبين أبي:
- أبي ما رأيك في هند ؟!
- ماذا تقصد يا صلاح ؟؟ هند فتاة مؤدبة وجميلة ولكنها لا تصلح زوجة لك.
- لماذا يا أبي ؟؟! لقد أحببتها.
- زواجك من هند يعني أن بنت أبي السعد ستكون مالكة لجزء من أراضينا وهذا لن يكون. ابنة عمك أفضل منها.
- ولكن يا أبي نحن لم نصبح مالكين لأننا تعبنا في ثمن الأرض. أنا ولدت مالكاً وهي ولدت فقيرة. ما ذنبها ؟!
- اسمع يا صلاح. لا أريد أن أسمع منك ذلك مرة ثانية. فكّر في أي فتاة غنية من العشيرة وأنا جاهز.
- يا أبي أنا لا أريد أي فتاة أبداً. أريد هند وحدها ولا شيء غيرها. أشعر أنها سعادتي.

بدت على وجه أبي علامات الغضب وأخذ يبدي مواقف متشددة ومتطرفة. من يومها أصبت بمرض الدوار وفقر الدم لقلة الغذاء والشراب. أصبحت منطوياً لا أرغب في رؤية أي من الناس وقد دام ذلك لفترة طويلة. من يومها أيضاً أخذت أفكر وأبحث في أصل الملكية الخاصة التي حالت بيني وبين هند وأصبحت مهتماً بالقضاء عليها فوقعت على كتاب " أصل العائلة والملكية " للفيلسوف الإنجليزي إنجلز، وهكذا، ودون أن أدري، أصبحت في شبابي شيوعياً.

كان أبي من أزلام حزب البعث الحاكم وكان يعبد صدام أكثر من الله. لا أذكر أن أبي تراجع عن قرار اتخذه حتى لو كان من خلفه الخراب والدمار، بضمن تلك القرارات حرماني من هند وإكراه أخي الأصغر على دراسة الهندسة الزراعية وإلا فإنه سوف يعلن البراءة منه ولن يتعرف عليه. أخي هذا الآن أقرب إلى صعلوك لم يفلح في الهندسة الزراعية ويكره أبي لأنه حرمه من دراسة العلوم السياسية. أبي حي يرزق ولكن أمراض السكر والضغط تفاقمت لديه، وأصبح لا يقوى على متابعة أعماله كالسابق. ما زال يعيش في الطابق السفلي في نفس البناية التي نملكها، وما زال يصعد لرؤية أحفاده يومياً، وما زال يغيظني بعدم اختياره للأوقات الملائمة التي يصر فيها على رؤية صلاح والتحدث إليه.

أبو السعد زوج هند لأحد أبناء عمومتها الفقراء. قتل زوجها في حرب السنوات الثماني مع إيران لأن صدام كان يريد أن يلعب دور الفارس العروبي حامي حمى البوابة الشرقية. كغيري من شباب القبيلة اضطررت للزواج من قريبة لي على درجة من الجمال، لكني اكتشفت فيما بعد أنها تعادي الثقافة ولا تقيم وزناً للعلم مثلها في ذلك كمثل الملايين من العرب والمسلمين. بالطبع في بداية حياتنا الزوجية كانت تتظاهر بالانسجام واحترام ما أحبه من كتب وروايات وجرائد ومجلات، ولكن مع الوقت عادت الأمور إلى طبيعتها.

خلال سنوات الحصار تعطلت جميع ماكنات ضخ المياه، وهجمت الصحراء على كرم الرمان وعلى غيره من الكروم، فتحولت أغلبها إلى غابات حزينة من الأعواد والحطب، بلا غصون خضراء يانعة، وبلا عصافير. أختي التي كانت تتلصص على هند وتأتيني بأخبارها قبل زواجها، قتلت في انفجار إرهابي آثم هي وزوجها وتركت طفلة عمرها سنتين. تبدلت ذكرى كرم الرمان الجميلة بمشاهد التصحر المفزعة وقلة الماء ومظاهر الموت المنتشر بلا رحمة في هواء المدينة الملوث بالبارود والدم.
هل أترك العراق كما تركه الملايين ؟؟!



#صلاح_يوسف (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تساؤلات ملحد من أصل إسلامي
- مقترحات حول مخالفات النشر في الحوار المتمدن
- لصوص النصوص في الحوار المتمدن
- القبيلة العربية الإسلامية والإنسان الأول
- دعوة إلى نبذ عقيدة الإسلام !
- عن الأصل الجنسي للحجاب في الإسلام
- نعم للجدار المصري !!
- هل حقاً أن القناعة كنزٌ لا يفنى ؟؟!
- ما بعد زلزال نادين البدير: هل ثمة زلازل نسائية أخرى قادمة ؟؟ ...
- نادين البدير بشائر ثورة قادمة !
- هل ينتهي الإسلام ؟؟!
- الإسلام والمجتمع المدني مرة أخرى
- من شموع البابلي إلى شموع الحوار المتمدن
- الإسلام والمجتمع المدني
- كم تكلفنا صلاة المسلمين ؟؟!
- في وجوب حظر تعليم وتداول القرآن !
- الرؤية الشرعية لمكافحة انفلونزا الخنازير !
- ملاحظات حول قانون العقوبات في الحوار المتمدن
- أكاذيب التفسير العلمي للقرآن
- الثالوث المقدّس في عقيدة المسلمين


المزيد.....




- بايدن: لا سلاح لإسرائيل في حال دخول رفح
- شاهد: سفير روسيا في ألمانيا يشارك في تكريم أرواح ضحايا الحرب ...
- الجيش الإسرائيلي يعلن العثور على أنفاق شرق رفح ويشير إلى معا ...
- -حزب الله- يعرض مشاهد من استهداف مبان تضم جنودا إسرائيليين.. ...
- هل إدارة بايدن جادة بتعليق تسليم الذخائر الثقيلة لإسرائيل؟
- المقاومة العراقية تعلن استهداف قاعدة عسكرية إسرائيلية شمال ط ...
- سمير جعجع: من أخذ قرار الحرب في جنوب لبنان عليه أن يعيد ترمي ...
- مصر.. تأييد حبس مدير الحملة الانتخابية لأحمد الطنطاوي سنة مع ...
- وفد حماس يغادر القاهرة دون نتائج
- الخارجية الأمريكية تعلن عن شحنات أسلحة جديدة إلى كييف


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - صلاح يوسف - كرم الرمّان